وسط مخاوف تزايد الانتهاكات.. مطالب بتحقيق التوازن بين تدابير مكافحة الإرهاب وضمانات حقوق الإنسان
وسط مخاوف تزايد الانتهاكات.. مطالب بتحقيق التوازن بين تدابير مكافحة الإرهاب وضمانات حقوق الإنسان
خشية وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان وخلق مظالم جديدة، لا تزال التدابير التي تتخذها الدول لمواجهة خطر الإرهاب تثير العديد من الشواغل بشأن تأثيرها على حقوق الإنسان والالتزام بسيادة القانون، لا سيما أن التوسع في استخدامها قد يؤدي إلى نتائج عكسية بانتشار الإرهاب وخلق حالة احتقان مجتمعي.
ومؤخرا، قدم مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك تقريرا بعنوان "الإرهاب وحقوق الإنسان"، إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في دورته الـ57 التي اختتمت فعالياتها الخميس بجنيف.
نتائج عكسية
وأفاد التقرير الأممي بأن عمليات مواجهة الإرهاب التي لا تمتثل للقانون الدولي لحقوق الإنسان، قد تؤدي إلى نتائج عكسية وقد تتسبب في إنشاء مظالم جديدة أو تفاقم مظالم موجودة مسبقا قد تؤدي إلى انتشار الإرهاب، ولذلك يجب على الدول أن تتخذ تدابير تتوافق مع القانون الدولي بما في ذلك القانون الدولي لحقوق الإنسان، بهدف مواجهة الإرهاب على نحو فعال ومستدام.
لا يشكل الإرهاب خطراً شديداً على السلم والأمن الدوليين فحسب، بل أيضاً على التمتع بحقوق الإنسان والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ولذلك يجب على الدول الأعضاء أن تتخذ خطوات لمكافحة الإرهاب بفعالية كجزء من التزامها بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان بحماية الحق في الحياة والأمن الشخصي.
حقوق الإنسان وسيادة القانون
وبحسب التقرير فإن التدابير الإدارية توفر أداة للدول للتصدي لجوانب تهديد الإرهاب، غير أن الاستخدام الموسع لبعض هذه التدابير يثير شواغل بشأن تأثيرها على حقوق الإنسان والالتزام بسيادة القانون، وبالتالي من الضروري ضمان أن يكون استخدامها في كل حالة قانونيا ومبررا وضروريا ومتناسبا، وأن يكون مصحوبا بضمانات ورقابة قويتين لمنع التجاوزات وحماية حقوق الإنسان.
وشهدت السنوات الأخيرة زيادة كبيرة في استخدام التدابير الإدارية لمكافحة الإرهاب، واعتمدت العديد من الدول ممارسات مثل الاحتجاز الإداري، والإقامة الجبرية، والقيود المفروضة على السفر، وأوامر المراقبة التي لا صلة لها بملاحقة التهم الجنائية، بينما لجأت دول أخرى إلى تدابير بعيدة المدى مثل الحرمان من الجنسية في سياق مكافحة الإرهاب، إضافة إلى وضع أفراد أو كيانات على ما يسمى قوائم المراقبة، خارج نظام العدالة الجنائية.
تدابير مكافحة الإرهاب
وركز المفوض السامي في تقريره استخدام التدابير الإدارية في مكافحة الإرهاب وآثارها على حقوق الإنسان، لا سيما في ما يتعلق بمكافحة تمويل الإرهاب، أو أثر التدابير الإدارية على العمل الإنساني، إلى جانب التدابير الجنائية المتعلقة بالمشتبه في قيامهم بأعمال إرهابية، وخاصة في ما يخص تعريف الجرائم المتعلقة بالإرهاب، وضمانات المحاكمة العادلة، وفرض عقوبة الإعدام.
وتُلزم الدول باتخاذ تدابير الحماية لجميع الأشخاص الموجودين في إقليمها والخاضعين لولايتها من الأعمال الإرهابية، بسبل منها تنفيذ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وهناك سعي بنشاط كبير إلى إدماج الالتزامات القانونية الدولية المتعلقة بمكافحة الإرهاب في الأحكام والممارسات الوطنية في مجالي القانون الجنائي والإداري.
وقال فولكر تورك إنه لدى تقييم التدابير الإدارية من الأهمية النظر في ما إذا كان استخدامها يؤدي إلى تفاقم الشواغل القائمة المتعلقة بحقوق الإنسان، إذ غالبا ما تستخدم تلك التدابير قبل وقوع الجريمة الإرهابية بهدف منعها، غير أن التدابير الجنائية عادة ما تستخدم على نحو متزايد باعتبارها وسيلة لردع الأفعال غير المكتملة مثل الشروع في ارتكاب جريمة أو التحريض المباشر والعلني أو بعض الأعمال التحضيرية التي تعتبر ذات طابع إجرامي ولذلك يُعاقب عليها.
وأشار تورك إلى أن العديد من الإجراءات الوطنية المتعلقة بإدراج الأفراد على قوائم الإرهاب، وما يترتب على ذلك من إجراءات إدارية مثل حظر السفر وتجميد الأصول، غالبا ما تفتقر إلى ضمانات إجرائية كافية لمنع إساءة استخدامها، مثل ضمانات الشفافية والوصول إلى المعلومات، فضلا عن الرقابة الفعالة.
الحقوق المنتهكة
وتؤثر تدابير مكافحة الإرهاب على حقوق الإنسان بشكل معقد، حيث تسعى الدول إلى تحقيق التوازن بين حماية الأمن القومي وضمان حقوق الأفراد، غير أنها غالبا ما ترتكب تجاوزات وانتهاكات تؤثر سلبا على الحقوق الأساسية تتمثل في ما يلي:
الحق في الخصوصية:
غالباً ما تتضمن تدابير مكافحة الإرهاب مراقبة واسعة النطاق للاتصالات الشخصية وبيانات الأفراد، ما قد ينتهك الحق في الخصوصية، ويمكن أن تشمل هذه التدابير التنصت على الاتصالات الهاتفية، وتتبع حسابات الإنترنت وغيرها.
الاحتجاز والتعذيب:
تؤدي تدابير مكافحة الإرهاب في بعض الحالات إلى احتجاز الأفراد لفترات طويلة دون تحقيق ضمانات المحاكمة العادلة تحت مسمى "الاحتجاز الوقائي" أو "الحبس الاحتياطي"، ما قد يعرض المحتجزين إلى خطر سوء المعاملة أو التعذيب أثناء التحقيقات.
الحق في حرية التعبير:
قد تُستخدم القوانين المرتبطة بمكافحة الإرهاب لتقييد حرية التعبير، مثل تهديد الأصوات المعارضة أو الصحفيين الذين يكتبون عن قضايا حساسة بالحبس، تحت ذريعة أن خطاباتهم تشكل خطرا على الأمن القومي.
الحق في حرية التنقل:
قد تؤدي تدابير مكافحة الإرهاب إلى فرض قيود على السفر والتنقل، وقد تشمل هذه التدابير فرض حظر سفر على بعض الأفراد أو إنشاء قوائم سوداء، ما يعوق حرية التنقل داخل البلاد أو خارجها.
التمييز العرقي أو الديني:
في بعض الأحيان، يتم استهداف مجموعات معينة من السكان بناءً على انتماءاتهم العرقية أو الدينية في إطار تدابير مكافحة الإرهاب، وقد يؤدي ذلك إلى سياسات تمييزية ضد هذه المجموعات، ما يؤثر على حقوقهم في المعاملة المتساوية أمام القانون.
الحق في محاكمة عادلة:
ويؤدي استخدام بعض التدابير الخاصة بمكافحة الإرهاب، إلى تهديد ضمانات إجراء المحاكمات العادلة، حيث تتضمن هذه التدابير استخدام الأدلة السرية أو الشهادات المنتزعة تحت الإكراه، ما يؤدي إلى تقويض مبدأ العدالة والمساواة أمام القانون.
إساءة استخدام السلطة:
قد يتم استخدام تدابير مكافحة الإرهاب كذريعة لتوسيع سلطات الحكومة التنفيذية أو تقويض الحقوق السياسية والمدنية تحت مزاعم حماية الأمن القومي، ما يؤدي إلى تركيز مفرط للسلطة في يد بعض أجهزة الدولة.
ووفق الخبراء والمراقبين، فإن تحقيق التوازن بين الأمن القومي وحقوق الإنسان يستلزم بالضرورة أن تكون تدابير مكافحة الإرهاب متوافقة مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتخضع للرقابة القضائية الفعالة لضمان عدم انتهاك الحقوق الأساسية.
وتشير تقارير دولية إلى تأثير تدابير مكافحة الإرهاب عالميًا على حرية المجتمع المدني والفضاء العام، إذ يتم إساءة استخدام التدابير الأمنية واسعة النطاق بدعوى مكافحة الإرهاب، في الاعتداءات المتصاعدة على منظمات المجتمع المدني المستقلة في مختلف أنحاء العالم.
وتقول دراسات أممية إن مكافحة الإرهاب لن تتأتى بالاستهداف المنتظم واسع النطاق للمجتمع المدني، بل إن أنماط الانتهاكات في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، عادة ما تهدف إلى ضمان استمرار مناخ من عدم الاستقرار والترهيب وتبرير الإفلات من العقاب والعنف.
معضلة التعريف
بدوره، قال المستشار المستقل لحقوق الإنسان في الأردن والمنطقة العربية الدكتور رياض الصبح، إن إشكالية مكافحة الإرهاب تشكل تحديا كبيرا أمام تطبيق حقوق الإنسان في القانون الدولي، وأحد الأسباب الرئيسية في ذلك هو عدم وجود تعريف محدد ودقيق للإرهاب في القانون الدولي، رغم وجود تعريف مبدئي في ما يسمى بالقانون الفقهي المرن وليس القانون الدولي.
وأوضح الدكتور الصبح في تصريح لـ"جسور بوست" أن التعريف العام للإرهاب هو استهداف المدنيين أو جزء من السكان بهدف الضغط أو التأثير على الدولة أو الحكومة أو أي منظمة دولية، وفي الوقت نفسه القانون الدولي يتيح لاعتبارات الأمن القومي تقييد بعض حقوق الإنسان خاصة تلك المتعلقة بالتعبير والمعتقد والفكر والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات وحرية التنقل، وذلك بموجب تحقق شرط التناسب والضرورة لحماية الأمن القومي.
وأضاف: "تعريف الأمن القومي هو ليس أي شيء يتعلق بانتقاد الأنظمة السياسية أو الحكومات، وإنما من خلال استخدام القوة ضد جزء من السكان أو الدولة أو النظام السياسي، وهو يستدعي تقييد بعض الحقوق ولكن دون المساس بباقي الحقوق التي يجب أن تصان مثل ضمان إجراء المحاكمات العادلة وتطبيق القانون دون تمييز وبقية حقوق الإنسان العامة المذكورة في الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.
ومضى الدكتور الصبح قائلا: "الدول بتشريعاتها تحاول أن تقدم تعريفا للإرهاب وتضع عقوبات، لكنها للأسف إما يكون التعريف فضفاضا أو يمس بعض أوجه التعبير عن الرأي، ما يشكل تحديا أمام تطبيق تلك الحقوق، وهذا يعني أن الدول بحاجة لتطوير تشريعاتها حتى لا تقع في الانتهاكات الحقوقية وهي في سبيلها لحماية الأمن القومي".
وأشار الخبير الأردني إلى ما تقوم به الدول أثناء النزاعات المسلحة مثل الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي يستهدف فيها الجيش الإسرائيلي قتل المدنيين للضغط على حركة "حماس"، ولذلك يجب تطوير تعريفات القانون الدولي ليدرج هذه الممارسات التي تقوم بها الدول من جرائم حرب وإبادة جماعية وانتهاكات حقوقية.
واختتم رياض الصبح داعيا الدول والحكومات في سياق مكافحة الإرهاب، للالتزام بضمان وصيانة حقوق الإنسان، وخاصة الحقوق الخمسة الأساسية وضمان إجراء المحاكمات العادلة وعدم التعذيب أو تطبيق عقوبات جماعية للإعدام وغيرها من الانتهاكات الحقوقية الأخرى.
ضمانات التوازن
ومن جانبه، قال الأكاديمي والمحلل السياسي اليمني الدكتور عبدالحميد المساجدي، إن تحقيق التوازن بين حماية الأمن القومي وضمان حقوق الأفراد يتطلب اتخاذ تدابير مدروسة تتماشى مع المعايير القانونية والحقوقية، للحفاظ على الشفافية والرقابة، وذلك من خلال إقرار التشريعات الملائمة والرقابة القضائية المستقلة وضمان الشفافية في تطبيق القوانين والمساءلة في تدابير مكافحة الإرهاب.
وأوضح المساجدي في تصريح لـ"جسور بوست" أن ضمان إجراء المحاكمات العادلة يعد من أبرز الضمانات التي تحول دون وقوع تجاوزات أو انتهاكات حقوقية، نظرا لإتاحة حق الحصول على محاكمة عادلة للأفراد المشتبه فيهم بقضايا الإرهاب، بما في ذلك الحق في الدفاع والوصول إلى محامٍ مستقل.
وأشار إلى أهمية اتباع مبدأ التناسب، حيث يجب أن تكون التدابير المتخذة لمكافحة الإرهاب متناسبة مع حجم التهديد، فلا ينبغي أن يتم تقييد حرية التعبير أو الحركة إلا عندما يكون هناك خطر أمني واضح وفوري، كما يلزم أن يتم تطبيق التدابير بشكل عادل ومنصف على جميع الأفراد بغض النظر عن العرق أو الدين أو الانتماءات السياسية، لتجنب استهداف مجموعات معينة بشكل غير عادل.
واختتم الخبير اليمني قائلاً: "من الأهمية تدريب قوات إنفاذ القانون والموظفين العاملين في مكافحة الإرهاب على أهمية احترام حقوق الإنسان خلال القيام بمهامهم، لتحقيق التوازن بين الأمن القومي وحقوق الإنسان، لا سيما أن ذلك من شأنه ضمان احترام الحقوق حتى في ظل التهديدات الأمنية"، مؤكدا أن مراعاة هذه الضمانات تتيح للدول حماية أمنها القومي بشكل فعال دون التضحية بحقوق الأفراد، ما يسهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي والعدالة.